فصل: سئل: هل التغليس أفضل أم الإسفار‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏

 فصـــل

قاعدة في أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها

وما يدخل في ذلك من جمع وقصر

جرت عادة كثير من العلماء المصنفين للعلم أن يذكروا في ‏[‏باب مواقيت الصلاة‏]‏‏:‏ أوقاتها وأعدادها وأسماءها، ثم منهم من يذكر القصر والجمع في بابين مفترقين مع صلاة أهل الأعذار كالمريض، والخائف‏.‏

ومنهم من يذكر الجمع في المواقيت‏.‏ وأما القصر فيفرده‏.‏ فإن سبب القصر هو السفر وحده، فقران صلاة المسافر بصلاة الخائف والمريض مناسب‏.‏

وأما الجمع‏:‏ فأسبابه متعددة؛ لاختصاص السفر به‏.‏ ونحن نذكر في كل منهما فصلاً جامعًا‏.‏

/أما العدد‏:‏ فمعلوم أنها خمس صلوات‏:‏ ثلاث رباعية، وواحدة ثلاثية وواحدة ثنائية، هذا في الحضر‏.‏ وأما في السفر، فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من ثلاثين سَفْرة، وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر الفرض أربعًا قط، حتى في حجة الوداع، وهي آخر أسفاره، كان يصلي بالمسلمين بمنى الصلوات‏:‏ ركعتين، ركعتين‏.‏ وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله عنه جميع أصحابه، ومن أخذ العلم عنهم‏.‏

والحديث الذي رواه الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر وتُتم ويُفطر، وتَصوم‏.‏ باطل في الإتمام‏.‏ وإن كان صحيحًا‏.‏ في الإفطار، بخلاف النقل المتواتر المستفيض‏.‏ ولم يذكر هذا بعد قط‏.‏

وكيف يكون والنبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره إنما كان يصلي الفرض إماما، لكن مرة في غزوة تبوك احتبس للطهارة ساعة فقدموا عبد الرحمن بن عوف، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم خلفه بعض الصلاة، فلو صلى بهم أربعًا في السفر، لكان هذا من أوكد ما تتوفر هممهم ودواعيهم على نقله؛ لمخالفته سنته المستمرة، وعادته الدائمة كما نقلوا أنه جمع بين الصلاتين أحيانًا‏.‏ فلما لم ينقل ذلك أحد منهم علم قطعًا أنه لم يفعل ذلك‏.‏

/ولهذا قال ابن عمر‏:‏ صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر‏:‏ أي من اعتقد أن صلاة ركعتين ليس بمسنون، ولا مشروع، فقد كفر‏.‏

وكذلك قال عمر بن الخطاب‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم‏.‏

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر‏.‏ قال الزهري‏:‏ فقلت لعروة‏:‏ فما بال عائشة تتم‏؟‏ قال‏:‏ تأولت، كما تأول عثمان‏.‏ أخرجاه في الصحيحين ‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة‏)‏‏.‏ هذا، ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، كان يقصر الصلاة في مقامه بمكة، والمشاعر، مع أنه دخل مكة يوم الأحد، وخرج منها يوم الخميس إلى منى، وعرف يوم الجمعة وأقام بمنى إلى عشية الثلاثاء، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء، وطاف للوداع تلك الليلة‏.‏ وقام ـ أيضًا ـ قبل ذلك في غزوة الفتح بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة‏.‏

/وأما الحديث الذي يروى عن عائشة‏:‏ أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت‏:‏ يا رسول الله بأبى وأمى قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أحسنت يا عائشة‏)‏‏!‏ وما عاب علي‏.‏ رواه النسائي‏.‏ وروى الدارقطني‏:‏ خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت‏.‏ وقال‏:‏ إسناده حسن‏.‏ فهذا لو صح، لم يكن فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أتم، وإنما فيه إذنه في الإتمام، مع أن هذا الحديث على هذا الوجه ليس بصحيح، بل هو خطأ لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الذي في الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن صلاة السفر ركعتان‏.‏ وقد ذكر ابن أخيها ـ وهو أعلم الناس بها ـ‏:‏ أنها إنما أتمت الصلاة في السفر بتأويل تأولته، لا بنص كان معها‏.‏ فعلم أنه لم يكن معها فيه نص‏.‏

الثانى‏:‏ أن في الحديث‏:‏ أنها خرجت معتمرة معه في رمضان عمرة رمضان، وكانت صائمة‏.‏ وهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط، وإنما كانت عُمَره كلها في شوال، وإذا كان لم يعتمر في رمضان، ولم يكن في عمره عليه صوم، بطل هذا الحديث‏.‏

/الثالث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سافر في رمضان في غزوة بدر، وغزوة الفتح‏.‏ فأما غزوة بدر، فلم يكن معه فيها أزواجه، ولا كانت عائشة‏.‏ وأما غزوة الفتح، فقد كان صام فيها في أول سفره، ثم أفطر، خلاف ما في هذا الحديث المفتعل‏.‏

الرابع‏:‏ أن اعتمار عائشة معه فيه نظر‏.‏

الخامس‏:‏ أن عائشة لم تكن بالتي تصوم وتصلى طول سفرها إلى مكة، وتخالف فعله بغير إذنه، بل كانت تستفتيه قبل الفعل، فإن الإقدام على مثل ذلك لا يجوز‏.‏

فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان، كما أن صلاة الحضر أربع، فإن عدد الركعات إنما أخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي سنه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي‏:‏ إن الأصل أربع، وإنما الركعتان رخصة‏.‏

وبنوا على هذا‏:‏ أن القاصر يحتاج إلى نية القصر في أول الصلاة كما قاله الشافعي، وهو قول الخرقى، والقاضى، وغيرهما، بل الصواب ما قاله جمهور أهل العلم، وهو اختيار أبي بكر وغيره‏:‏ أن القصر لا يحتاج إلى نية، بل دخول المسافر في صلاته كدخول الحاضر، بل لو/نوى المسافر أن يصلي أربعًا لكره له ذلك، وكانت السنة أن يصلي ركعتين، ونصوص الإمام أحمد إنما تدل على هذا القول‏.‏

وقد تنازع أهل العلم في التربيع في السفر‏:‏ هل هو محرم‏؟‏ أو مكروه‏؟‏ أو ترك الأفضل‏؟‏ أو هو أفضل‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏

فالأول‏:‏ قول أبى حنيفة، ورواية عن مالك‏.‏

والثانى‏:‏ رواية عنه، وعن أحمد‏.‏

والثالث‏:‏ رواية عن أحمد، وأصح قولى الشافعي‏.‏

والرابع‏:‏ قول له‏.‏ و‏]‏الرابع‏[‏ خطأ قطعًا، لا ريب فيه‏.‏ والثالث ضعيف، وإنما المتوجه أن يكون التربيع إما محرم أو مكروه؛ لأن طائفة من الصحابة كانوا يربعون، وكان الآخرون لا ينكرونه عليهم إنكار من فعل المحرم، بل إنكار من فعل المكروه‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، فهنا علق القصر بسببين‏:‏ الضرب في الأرض، والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها، وقصر عملها، وأركانها‏.‏ مثل الإيماء بالركوع والسجود، فهذا القصر إنما شرع بالسببين كلاهما، /كل سبب له قصر‏.‏ فالسفر يقتضي قصر العدد، والخوف يقتضي قصر الأركان‏.‏

ولو قيل‏:‏ إن القصر المعلق هو قصر الأركان، فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، لكان وجيهًا‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوي بالجمع، فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرعته لأمته، بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر‏.‏ فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانًا وأما الإتمام فيه، فلم ينقل عنه قط، وكلاهما مختلف فيه بين الأمة، فإنهم مختلفون في جواز الإتمام، وفي جواز الجمع، متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد‏.‏ فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه في أسفاره، وقد اتفقت الأمة عليه، إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة،وقد تنازعت فيه الأمة‏.‏

 فصـــل

وأما الوقت‏:‏ فالأصل في ذلك أن الوقت في كتاب الله وسنة رسول الله نوعان‏:‏ وقت اختيار ورفاهية، ووقت حاجة وضرورة‏.‏

/أما الأول، فالأوقات خمسة‏.‏

وأما الثانى، فالأوقات ثلاثة، فصلاتا الليل، وصلاتا النهار، وهما اللتان فيهما الجمع والقصر، بخلاف صلاة الفجر فإنه ليس فيها جمع ولا قصر، لكل منهما وقت مختص، وقت الرفاهية والاختيار، والوقت مشترك بينهما عند الحاجة والاضطرار، لكن لا تؤخر صلاة نهار إلى ليل، ولا صلاة ليل إلى نهار‏.‏

ولهذا وقع الأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى صلاة العصر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏فكأنما وَتِرَ أهله وماله‏)‏‏.‏ وقد دل على هذا الأصل أن الله في كتابه ذكر الوقوت تارة ثلاثة، وتارة خمسة‏.‏

أما الثلاثة، ففى قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، وفى قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحْ

بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏.‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48، 49‏[‏ أما الخمس فقد ذكرها أربعة‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏.‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17، 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 130‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ

قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏.‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏39، 40‏]‏، والسنة هي التي فسرت ذلك وبينته وأحكمته‏.‏

وذلك أنه قد ثبت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يصلي الصلوات الخمس في خمس مواقيت‏:‏ في حال مقامه بالمدينة، وفى غالب أسفاره حتى أنه في حجة الوداع ـ آخر أسفاره ـ كان يصلي كل صلاة في وقتها ركعتين، وإنما جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين العشائين بمزدلفة ؛ ولهذا قال ابن مسعود‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها، إلا المغرب ليلة جمع، والفجر بمزدلفة‏.‏ وإنما قال ذلك لأنه غلس بها تغليسًا شديدًا، وقد بين جابر في حديثه أنه صلاها حين طلع الفجر‏.‏

ولهذا اتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة؛ لأن جمع هاتين الصلاتين في حجة الوداع دون غيرهما، مما صلاه بالمسلمين بمنى أو بمكة هو من المنقول نقلاً عامًا متواترًا مستفيضًا‏.‏

وثبت عنه أنه بين مواقيت الصلاة بفعله لمن سأله عن المواقيت بالمدينة، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى موسى، وحديث بريدة بن الحصيب، وبين له جبريل المواقيت بمكة، كما رواه جابر، وابن عباس‏.‏ وروى مسلم في صحيحه المواقيت من كلام النبي/صلى الله عليه وسلم، من حديث عبد الله بن عمر، وهو أحسن أحاديث المواقيت؛ لأنه بيان بكلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏

‏(‏وقت الفجر ما لم تطلع الشمس، ووقت الظهر ما لم يصر ظل كل شىء مثله، ووقت العصر ما لم تصفَرَّ الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل‏)‏‏.‏ وقد روى نحو ذلك من حديث أبى هريرة مرفوعًا، وفيه نظر‏.‏ وعلى هذه الأحاديث اعتمد الإمام أحمد لكثرة اطلاعه على السنن‏.‏ وأما غيره من الأئمة، فبلغه بعض هذه الأحاديث دون بعض، فاتبع ما بلغه، ومن اتبع ما بلغه فقد أحسن، وما على المحسنين من سبيل‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم في غير حديث‏:‏ ‏(‏سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏‏.‏ فهذا دليل على أنه لا يجوز تأخير الأولى إلى وقت الثانية ولا يجوز الجمع لغير حاجة، فإن الأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار، ولكن غايتهم أن يؤخروا الظهر إلى وقت العصر إلى الاصفرار، أو يؤخروا المغرب إلى مغيب الشفق‏.‏ وأما العشاء، فلو أخروها إلى نصف الليل لم يكن ذلك مكروهًا‏.‏ وتأخيرها إلى ما بعد ذلك لم يكن يفعله أحد، ولا هو مما يفعله الأمراء‏.‏

/وأما الثلاث، فقد ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة من حديث ابن عمر وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل‏:‏ أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، يجمع في وقت الثانية إذا جد به السير في وقت الأولى، أو إذا كان سائرًا في وقتها‏.‏ وهذا مما اتفق عليه القائلون بالجمع بين الصلاتين من فقهاء الحديث، وأهل الحجاز‏.‏ وكذلك ما روى عنه‏:‏ ‏(‏أنه كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا‏)‏ رواه أهل السنن من حديث معاذ‏.‏ ورواه مسلم في صحيحه عن معاذ‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر‏.‏ وبين المغرب والعشاء‏)‏‏.‏ وإنما تنازعوا فيما إذا كان نازلاً في وقت الصلاتين كلاهما، وفيه روايتان عن أحمد‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يجمع لعدم السنة، والحاجة، وهو قول مالك، واختيار الخرقي‏.‏

الثانية‏:‏ يجمع، وهو قول الشافعي؛ لحديث روي في ذلك ـ أيضًا ـ رواه أبو داود‏.‏ وذكر ابن عبد البر أنه لم يرو غيره، وثبت عنه ـ أيضًا ـ بالأحاديث الصحيحة وبالاتفاق‏:‏ ‏(‏أنه جمع في حجة الوداع بعرفة بين صلاتي العشي، وبمزدلفة بين صلاتي العشائين‏)‏، وثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس‏:‏ أنه صلى بالمدينة سبعًا، وثمانياً‏:‏ الظهر والعصر /والمغرب والعشاء‏.‏ وفى صحيح مسلم عنه‏:‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر‏.‏ قيل لابن عباس‏:‏ ما أراد بذلك‏؟‏ قال‏:‏ أراد ألا يحرج أمته‏.‏ وكذلك قال معاذ بن جبل‏.‏

وروى أهل السنن عنه حديثين أو ثلاثة أنه أمر المستحاضة بالجمع بين الصلاتين في حديث حَمْنَة بنت جحش، وغيرها، فهذا الجمع بالمدينة للمطر ولغير مطر‏.‏ وقد نبه به ابن عباس على الجمع للخوف والمطر‏.‏ والجمع عند المسير في السفر، يجمع في المقام وفى السفر لرفع الحرج‏.‏ فعلم بذلك أنه ليس السفر سبب للجمع، كما هو سبب للقصر، فإن قصر العدد دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، وأما الجمع فقد جمع في غير سفر، وقد كان في السفر يجمع للمسير، ويجمع في مثل عرفة ومزدلفة، ولا يجمع في سائر مواطن السفر، وأمر المستحاضة بالجمع‏.‏

فظهر بذلك أن الجمع هو لرفع الحرج، فإذا كان في التفريق حرج، جاز الجمع، وهو وقت العذر والحاجة‏.‏ ولهذا قال الصحابة‏:‏ كعبد الرحمن بن عوف وابن عمر في الحائض إذا طهرت قبل الغروب، صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر، صلت المغرب والعشاء، وقال بذلك أهل الجمع ـ كمالك والشافعي‏.‏ وأحمد ـ فهذا يوافق ‏[‏قاعدة الجمع‏]‏ في أن الوقت مشترك بين صلاتى الجمع عنـد الضـرورة / والمانع‏.‏ فمن أدرك آخـر الوقت المشترك، فقد أدرك الصلاتين كلاهما‏.‏

ومن قال ـ من أصحابنا وغيرهم ـ‏:‏ إن الجمع معلق بسفر القصر وجودًا وعدمًا، حتى منعوا الحجاج الذين بمكة وغيرهم من الجمع بين صلاتى العشى، وصلاتى العشاء، فما أعلم لقولهم حجة تعتمد، بل خلاف السنة المعلومة يقينًا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإنا قد علمنا أنه لم يأمر أحدًا من الحجاج معه من أهل مكة أن يؤخروا العصر إلى وقتها المختص، ولا يعجلوا المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة، فيصلوها إما بعرفة، وإما قريبًا من المأزمين، هذا مما هو معلوم يقينًا، ولا قال هذا أحمد، بل كلامه ونصوصه تقتضى أنه يجمع بين الصلاتين ويؤخر المغرب جميع أهل الموسم، كما جاءت به السنة، وكما اختاره طوائف من أصحابه ـ كأبي الخطاب في العبادات، وأبي محمد المقدسى وغيرهما‏.‏

ثم إما أن يقال‏:‏ إن الجمع معلق بالسفر مطلقًا، قصيره وطويله إما مطلقًا وإما لأجل المسير، وإما أن يقال‏:‏ الجمع بمزدلفة لأجل النسك، كما يقوله من يقوله من أصحابنا، وغيرهم‏.‏ والأول أصوب عندى وأَقِيسه بأصول أحمد، ونصوصه، فإنه قد نص على الجمع في الحضر لشغل، فإذا جد به السير في السفر القصير فهو أولى؛ ولأن الأحكام المعلقة بالسفر تختص بالسفر، كالقصر والفطر والمسح‏.‏ وأما المتعلقة بالطويل والقصير كالصلاة على الدابة، والمتيمم، وكأكل الميتة،/ فهذه جاءت للحاجة، وكذلك يجوز في الحضر، والجمع هو من هذا الباب‏.‏ إنما جاز لعموم الحاجة لا لخصوص السفر؛ ولهذا كان ما تعلق بالسفر إنما هو رخصة قد يستغنى عنها‏.‏ وأما ما تعلق بالحاجة، فإنه قد يكون ضرورة لابد منها‏.‏ فالأول كفطر المسافر، والثانى كفطر المريض فهذا هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏

ومما يشبه هذه الآية في العموم والجمع ـ وإن اشتبه معناها ـ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏ فإنه أباح القصر بشرطين الضرب في الأرض، وخوف الكفار‏.‏

ولهذا اعتقد كثير من الناس أن القصر مجرد قصر العدد، أشكل عليهم‏.‏ فمن أهل البدع من قال‏:‏ لا يجوز قصر الصلاة إلا في حال الخوف، حتى روى الصحابة السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في القصر في سفر الأمن، وقال ابن عمر‏:‏ صلاة السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر‏.‏ فإن من الخوارج من يرد السنة المخالفة لظاهر القرآن، مع علمه بأن الرسول سنها‏.‏

وقال حارثـة بن وهب‏:‏ صلينا مع رسـول الله صلى الله عليه وسلم ـ آمـن مـا كـان ـ ركعتين‏.‏ وقـال عبد الله بن مسعود‏:‏ صلينا خلف/ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وخلف أبى بكر ركعتين، وخلف عمر ركعتين، وقال عمر ليعلى بن أمية لما سأله عن الآية‏:‏ فقال‏:‏ عجبت مما عجبت منه‏.‏ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏)‏ ‏.‏

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القصر في سفر الأمن صدقة من الله، ولم يقل إنها مخالفة لظاهر القرآن‏.‏ فنقول‏:‏ القصر الكامل المطلق هو قصر العدد، وقصر الأركان، فقصر العدد جعل الرباعية ركعتين، وقصر الأركان هو قصر القيام والركوع والسجود كما في صلاة الخوف الشديد، وصلاة الخوف اليسير‏.‏

فالسفر سبب قصر العدد، والخوف سبب قصر الأركان، فإذا اجتمع الأمران ـ قصر العدد والأركان ـ وإن انفرد أحد السببين‏:‏ ـ انفرد قصره ـ فقوله ـ سبحانه ـ ‏:‏‏{‏أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، مطلق في هذا القصر، وهذا القصر، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسر مجمل القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه‏.‏ وهى مفسرة له لا مخالفة لظاهره‏.‏

ونظير هذا ـ أيضًا ـ ما قرئ به في قوله‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، من أن المسح مطلق يدخل فيه المسح بإسالة، وهو الغسل،/ والمسح بغير إسالة وهو المسح بلا غسل‏.‏ فالقرآن أمر بمسح مطلق، والسنة تثبت أن المسح في الرأس بغير إسالة، والمسح على الرجلين بإسالة‏.‏ فهي مفسرة له، لا مخالفة لظاهره، فينبغي تدبر القرآن، ومعرفة وجوهه، فإن أكثر ما يتوهم الناس أنه قد خولف ظاهره، وليس كذلك، وإنما له دلالات يعرفها من أعطاه الله فهمًا في كتابه، ويستفيد بذلك خمس فوائد‏.‏

أحدها‏:‏ تقرير الأحكام بدلائل القرآن‏.‏

والثانى‏:‏ بيان اتفاق الكتاب والسنة‏.‏

والثالث‏:‏ بيان أن السنة مفسرة له، لا منافية له‏.‏

والرابع‏:‏ بيان المعاني والبيان التي في القرآن‏.‏

والخامس‏:‏ الإجماع موافق للكتاب والسنة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الأعمال عند الله الصلاة لوقتها‏)‏ فهل هو الأول أو الثانى‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الوقت يعم أول الوقت وآخره، والله يقبلها في جميع الوقت، لكن أوله أفضل من آخره، إلا حيث استثناه الشارع كالظهر في شدة الحر، وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين، والله أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رحمه الله ‏:‏

هل يشترط الليل إلى مطلع الشمس‏؟‏ وكم أقل ما بين وقت المغرب ودخول العشاء من منازل القمر‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما وقت العشاء فهو مغيب الشفق الأحمر، لكن في البناء يحتاط حتى يغيب الأبيض، فإنه قد تستتر الحمرة بالجدران فإذا غاب البياض تيقن مغيب الأحمر‏.‏ هذا مذهب الجمهور ـ كمالك والشافعي وأحمد‏.‏

وأما أبو حنيفة‏:‏ فالشفق عنده هو البياض، وأهل الحساب يقولون‏:‏ إن وقتها منزلتان، لكن هذا لا ينضبط، فإن المنازل إنما تعرف بالكواكب، بعضها قريب من المنزلة الحقيقية، وبعضها بعيد من ذلك‏.‏

وأيضًا، فوقت العشاء في الطول والقصر يتبع النهار فيكون / في الصيف أطول، كما أن وقت الفجر يتبع الليل، فيكون في الشتاء أطول‏.‏

ومن زعم أن حصة العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء، وفي الصيف‏.‏ فقد غلط غلطًا حسيًا باتفاق الناس‏.‏

وسبب غلطه أن الأنوار تتبع الأبخرة، ففى الشتاء يكثر البخار بالليل، فيظهر النور فيه أولاً، وفي الصيف تقل الأبخرة بالليل، وفي الصيف يتكدر الجو بالنهار بالأبخرة، ويصفو في الشتاء؛ لأن الشمس مزقت البخار، والمطر لبد الغبار‏.‏

وأيضًا، فإن النورين تابعان للشمس، هذا يتقدمها، وهذا يتأخر عنها، فيجب أن يكونا تابعين للشمس، فإذا كان في الشتاء طال زمن مغيبها، فيطول زمان الضوء التابع لها‏.‏

وأما جعل هذه الحصة بقدر هذه الحصة، وأن الفجر في الصيف أطول، والعشاء في الشتاء أطول، وجعل الفجر تابعًا للنهار ـ يطول في الصيف، ويقصر في الشتاء ـ وجعل الشفق تابعًا لليل يقصر في الصيف ويطول في الشتاء، فهذا قلب الحس والعقل والشرع‏.‏ ولا يتأخر ظهور السواد عن مغيب الشمس‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل‏:‏هل التغليس أفضل أم الإسفار‏؟

فأجاب‏:‏

الحمد لله، بل التغليس أفضل، إذا لم يكن ثم سبب يقتضى التأخير، فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه كان يغلس بصلاة الفجر، كما في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في مسجده قناديل، كما في الصحيحين عن أبى بَرْزَةَ الأسلمي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى المائة، وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، وهذه القراءة هي نحو نصف جزء أو ثلث جزء، وكان فراغه من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه‏.‏ وهكذا في الصحيح من غير هذا الوجه أنه كان يغلس بالفجر، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكان بعده أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فنشأ في دولتهم فقهاء رأوا / عادتهم فظنوا أن تأخير الفجر والعصر أفضل من تقديمها، وذلك غلط في السنة‏.‏

واحتجوا بما رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر‏)‏، وقد صححه الترمذي، وهذا الحديث لو كان معارضًا لم يقاومها؛ لأن تلك في الصحيحين، وهى مشهورة مستفيضة، والخبر الواحد إذا خالف المشهور المستفيض كان شاذًا، وقد يكون منسوخًا؛ لأن التغليس هو فِعْلُه حتى مات، وفِعْلُ الخلفاء الراشدين بعده‏.‏

وقد تأول الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة وغيره كأبى حفص البَرْمَكي من أصحاب أحمد وغيرهما، قوله‏:‏ ‏(‏أسفروا بالفجر‏)‏ على أن المراد‏:‏ الإسفار بالخروج منها، أي أطيلوا صلاة الفجر حتى تخرجوا منها مسفرين‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالإسفار التبين، أي‏:‏ صلوها إذا تبين الفجر وانكشف ووضح؛ فإن في الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب بجمع، وصلاة الفجر إنما صلاها يومئذ بعد طلوع الفجر‏.‏ هكذا في صحيح مسلم عن جابر قال‏:‏ وصلى صلاة الفجر حين برق / الفجر‏.‏ وإنما مراد عبدالله بن مسعود أنه كان يؤخر الفجر عن أول طلوع الفجر حتى يتبين وينكشف ويظهر وذلك اليوم عجلها قبل‏.‏

وبهذا تتفق معاني أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أخرها لسبب يقتضي التأخير مثل المتيمم عادته إنما يؤخرها ليصلي آخر الوقت بوضوء، والمنفرد يؤخرها حتى يصلي آخر الوقت في جماعة، أو أن يقدر على الصلاة آخر الوقت قائمًا، وفى أول الوقت لا يقدر إلا قاعدًا، ونحو ذلك مما يكون فيه فضيلة تزيد على الصلاة في أول الوقت، فالتأخير لذلك أفضل‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل‏:‏ عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر‏)‏ ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر‏)‏، فإنه حديث صحيح‏.‏ لكن قد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغلس بالفجر، حتى كانت تنصرف نساء المؤمنات متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس‏.‏ فلهذا فسروا ذلك الحديث بوجهين‏:‏

/أحدهما‏:‏ أنه أراد الإسفار بالخروج منها‏:‏ أي أطيلوا القراءة حتى تخرجوا منها مسفرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بالستين آية إلى مائة آية، نحو نصف حزب‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أنـه أراد أن يتبين الفجر ويظهر، فلا يصلي مع غلبة الظن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كـان يصلي بعـد التبين، إلا يـوم مزدلفة فإنه قدمها ذلك اليوم على عادته‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل من أهل القبلة ترك الصلاة مدة سنتين، ثم تاب بعد ذلك، وواظب على أدائها‏.‏ فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما من ترك الصلاة، أو فرضًا من فرائضها، فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسيًا له بعد علمه بوجوبه، وإما أن يكون جاهلاً بوجوبه، وإما أن يكون لعذر يعتقد معه جواز التأخير، وإما أن يتركه عالمًا عمدًا‏.‏

فأما الناسي للصلاة، فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول/ الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه، باتفاق الأئمة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏.‏ لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ وقد استفاض في الصحيح وغيره‏:‏ أنه نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعد ما طلعت الشمس السنة والفريضة بأذان وإقامة ‏.‏

وكذلك من نسي طهارة الحدث، وصلى ناسيًا‏:‏ فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع، حتى لو كان الناسي إمامًا كان عليه أن يعيد الصلاة، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد في المنصوص المشهور عنه‏.‏ كما جرى لعمر وعثمان ـ رضي الله عنهما‏.‏

وأما من نسى طهارة الخبث، فإنه لا إعادة عليه في مذهب مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه؛ لأن هذا من باب فعل المنهى عنه، وتلك من باب ترك المأمور به، ومن فعل ما نهى عنه ناسيًا فلا إثم عليه بالكتاب والسنة‏.‏ كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان ناسيًا‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وطرد ذلك فيمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن تطيب ولبس ناسيًا، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏/ وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيًا كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد‏.‏

وهنا مسائل تنازع العلماء فيها‏:‏ مثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها‏.‏

وأما من ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال‏.‏ وجهان في مذهب أحمد‏:‏

أحدها‏:‏ عليه الإعادة مطلقًا‏.‏ وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد‏.‏

والثانى‏:‏ عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب‏.‏ وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن دار الحرب دار جهل، يعذر فيه، بخلاف دار الإسلام‏.‏

والثالث‏:‏ لا إعادة عليه مطلقًا‏.‏ وهو الوجه الثانى في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

وأصل هذين الوجهين‏:‏ أن حكم الشارع، هل يثبت في حق /المكلف قبل بلوغ الخطاب له، فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره‏:‏

أحدها‏:‏ يثبت مطلقًا‏.‏

والثانى‏:‏ لا يثبت مطلقًا‏.‏

والثالث‏:‏ يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل‏.‏ فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم‏.‏

وعلى هذا، لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص‏.‏ مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، ثم يبلغه النص، ويتبين له وجوب الوضوء، أو يصلي في أعطان الإبل ثم يبلغه، ويتبين له النص، فهل عليه إعادة ما مضى‏؟‏ فيه قولان هما روايتان عن أحمد‏.‏

ونظيره أن يمس ذكره ويصلي، ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر‏.‏

والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة؛ لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين، لم يثبت حكم وجوبه عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعمارًا ـ لما أجنبا فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ ـ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ ‏[‏المستحاضة‏]‏ إذا مكثت مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففى وجوب القضاء عليها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا إعادة عليها‏.‏ كما نقل عن مالك وغيره؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنى حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتنى الصلاة والصيام، أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضى ‏.‏

وقد ثبت عندى بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادى ـ وغير البوادى ـ من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة‏:‏ صلى، تقول‏:‏ حتى أكبر وأصير عجوزة، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها‏.‏ وفى أتباع الشيوخ / طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواء قيل‏:‏ كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل‏.‏

وكذلك من كان منافقًا زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن خلافه، وهو لا يصلي، أو يصلي أحيانًا بلا وضوء، أو لا يعتقد وجوب الصلاة، فإنه إذا تاب من نفاقه وصلى، فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء‏.‏ والمرتد الذي كان يعتقد وجوب الصلاة، ثم ارتد عن الإسلام، ثم عاد، لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء ـ كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه ـ فإن المرتدين الذين ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ كعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وغيره ـ مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما تركوه‏.‏ وكذلك المرتدون على عهد أبى بكر لم يؤمروا بقضاء صلاة، ولا غيرها‏.‏

وأما من كان عالمًا بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها الموقت، فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة ـ منهم ابن حزم وغيره ـ إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدًا‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل عليه صلوات كثيرة فاتته، هل يصليها بسننها‏؟‏ أم الفريضة وحدها‏؟‏ وهل تقضى في سائر الأوقات من ليل أو نهار‏؟‏

فأجاب‏:‏

المسارعة إلى قضاء الفوائت الكثيرة أولى من الاشتغال عنها بالنوافل، وأما مع قلة الفوائت فقضاء السنن معها حسن‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام هو وأصحابه عن الصلاة ـ صلاة الفجر ـ عام حنين، قضوا السنة والفريضة‏.‏ ولما فاتته الصلاة يوم الخندق قضى الفرائض بلا سنن‏.‏ والفوائت المفروضة تقضى في جميع الأوقات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل‏:‏أيما أفضل صلاة النافلة‏؟‏ أم القضاء‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان عليه قضاء واجب، فالاشتغال به أولى من الاشتغال بالنوافل التي تشغل عنه‏.‏

/  وسئل شيخ الإسلام‏:‏ عن رجل صلى ركعتين من فرض الظهر فسلم، ثم لم يذكرها إلا وهو في فرض العصر في ركعتين منها في التحيات‏.‏ فماذا يصنع‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان مأمومـًا، فإنه يتم العصر، ثم يقضى الظهر‏.‏ وفى إعادة العصر قولان للعلماء، فإن هذه المسألة مبنية على أن صلاة الظهر بطلت بطول الفصل، والشروع في غيرها، فيكون بمنزلة من فاتته الظهر، ومن فاتته الظهر وحضرت جماعة العصر، فإنه يصلي العصر، ثم يصلي الظهر، ثم هل يعيد العصر‏؟‏ فيه قولان للصحابة والعلماء‏.‏

أحدهما‏:‏ يعيدها، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك، والمشهور في مذهب أحمد‏.‏

والثاني‏:‏ لا يعيد، وهو قول ابن عباس، ومذهب الشافعي، واختيار جدي‏.‏ ومتى ذكر الفائتة في أثناء الصلاة كان كما لو ذكر قبل الشروع فيها، ولو لم يذكر الفائتة حتى فرغت الحاضرة، فإن الحاضرة تجزئة عند جمهور العلماء‏.‏ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وأما مالك، فغالب ظني أن مذهبه أنها لا تصح‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ‏:‏ عن رجل فاتته صلاة العصر‏:‏ فجاء إلى المسجد فوجـد المغرب قد أقيمت، فهل يصلي الفائتة قبل المغرب أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، بل يصلي المغرب مع الإمام، ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، ولكن هل يعيد المغرب‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ يعيد، وهو قول ابن عمر، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه‏.‏

والثاني‏:‏ لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس، وقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد‏.‏ والثاني أصح، فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين، إذا اتقى الله ما استطاع‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ‏:‏ عن رجل دخل الجامع والخطيب يخطب، وهـو لا يسمع كلام /الخطيب، فذكر أن عليه قضاء صلاة فقضاها في ذلك الوقت، فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا ذكر أن عليه فائتة وهو في الخطبة يسمع الخطيب أو لا يسمعه، فله أن يقضيها في ذلك الوقت، إذا أمكنه القضاء، وإدراك الجمعة، بل ذلك واجب عليه عند جمهور العلماء؛ لأن النهي عن الصلاة وقت الخطبة لا يتناول النهي عن الفريضة، والفائتة مفروضة في أصح قولي العلماء، بل لا يتناول تحية المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏ ‏.‏

وأيضًا، فإنَّ فِعْلَ الفائتة في وقت النهي ثابت في الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر‏)‏‏.‏

وقد تنازع العلماء فيما إذا ذكر الفائتة عند قيامه إلى الصلاة، هل يبدأ بالفائتة وإن فاتته الجمعة ـ كما يقوله أبو حنيفة ـ أو يصلي الجمعة ثم يصلي الفائتة ـ كما يقول الشافعي وأحمد وغيرهما‏؟‏ ثم هل عليه إعادة الجمعة ظهرًا‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏

وأصل هذا‏:‏ أن الترتيب في قضاء الفوائت واجب في الصلوات / القليلة، عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد، بل يجب عنده في إحدى الروايتين في القليلة والكثيرة‏.‏ وبينهم نزاع في حد القليل، وكذلك يجب قضاء الفوائت على الفور عندهم، وكذلك عند الشافعي إذا تركها عمدًا في الصحيح عندهم بخلاف الناسي‏.‏

واحتج الجمهور بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏فإن ذلك وقتها‏)‏‏.‏

واختلف الموجبون للترتيب، هل يسقط بضيق الوقت‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ لكن أشهرهما عنه أنه يسقط الترتيب، كقول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏ والأخرى لا يسقط، كقول مالك‏.‏ وكذلك هل يسقط بالنسيان‏؟‏ فيه نزاع نحو هذا‏.‏

وإذا كانت المسارعة إلى قضاء الفائتة، وتقديمها على الحاضرة بهذه المزية، كأن فعل ذلك في مثل هذا الوقت هو الواجب، وأما الشافعي فإذا كان يجوز تحية المسجد في هذا الوقت، فالفائتة أولى بالجواز، والله أعلم‏.‏